الدكتور عبد النبي عيدودي يكتب: تأملات عيدودي.. طلب العلم فريضة (2)
اختليتُ إلى نفسي، اليوم الجمعة 25 شتنبر 2020، بعد حصولي على شهادة الدكتوراه الثانية في تخصص العقائد والأديان السماوية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس الرباط، بميزة مشرف جدا .. اختليتُ بنفسي لأتأمل في الذي مضى، والذي يجري، وفي ما يمكن أن يأتي بفضل الله ومشيئته…
أول ما قفز إلى ذهني هو تاريخٌ مماثل: 13 يونيو 2013، وهو يوم حصولي على شهادة الدكتوراه الأولى في القانون العام، تخصص العلوم السياسية والقانون الدستوري، فحمدتُ الله الذي بحمده يبلغ ذو القصد تمام قصده . ..وشكرتُ من كل قلبي كل أولئك الذين ساعدوني، بشكل مباشر أو غير مباشر، لأنال هذا الفخر العظيم: أفراد عائلتي، أساتذتي، أصدقائي، أبناء بلدتي…. لكم جميعا مني جميلُ الامتنان والحب والمودة والاعتراف.
وأنا أتأمل، استحضرتُ قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: ( أطلب العلم من المهد إلى اللحد )، فساءَلَتِ النفسُ نفسي: هل يُعفيك الحصول على شهادتين اثنتين للدكتوراه من مزيدٍ من طلب العلم؟ هل اكتمل ارتواءُ العقلُ وانطفأ العطش؟ هل خمد ذاك الشغف اللامتناهي إلى العلم؟
أجبت نفسي، بلا تردد، لا يا قلب، اجتهد يا عقل، استـقــوِ يا إرادة في مواصلة البحث في دكتوراه ثالثة، وهذه المرة في مُعترك الفلسفة السياسية، وبالضبط حول موضوع: “علم السياسية زمن ابن خلدون” …فوجدتُني، سريعا، أعد نفسي على أن أمضي قُـــدما في هذا المشروع العلمي إلى نهايته، ليست غايتي في ذلك حصدُ الدكتوراه الثالثة فَحَسْب، وإنما غايتي الأولى أن أظل ملتصقا بالعلم والتحصيل إلى آخر رمق في حياتي…لأن في ذلك متعة ومناعة وعزة وابتهاج لا مثيل لهم.
لقد قال عليه الصلاة والسلام: ” أطلبوا العلم ولو كان في الصين”… فكيف لا نطلبه نحن، وهو صار اليوم مُتاحاً في متناول أيدينا بهذا الوطن العظيم الذي فتح المعاهد والجامعات، وبنى المدارس في كل الجهات والأقاليم والمدن والقرى والدواوير والمداشر !؟
جلستُ أتأمل خطواتي الأولى في درب مساري نحو طلب العلم، وتراقَصَتْ أمام عينيَ ذكرياتُ مُثولي، وأنا في سن الرابعة من عمري، بين يدي جدي الفقيه يعلمني حفظ القرآن الكريم على اللوح الخشبي، ويلقنني تقنيات وكيفيات أن أمحو بالصلصال وأكرر بالقلم والدواية و السمق… لم يكون حينها هاتف و لا طابليط و لا 4G …تذكرتُ أمور الفلاحة، من حصاد للحمص، وزرع ورعي للغنم والماعز والبقر… تذكرتُ تلك الطريق الطويل بين أولاد عمران ومدرسة أنوال بالقرية الرتبية، بِــحَــرِّهَا وقَـــرِّهَا، بشتائها وبردها، وبفيضاناتها احيانا!!!!
تذكرتُ، أيضا، تلك الطفولة الصعبة والمفعمة، في نفس الوقت، باللعب مع الأقارب ، وبالشقاوة البريئة حينا وبالجِد أحياناً، وكأنَّ قَــدَرَنا أن نكبر سريعا.
لقد كانت طفولةً عامرة بالتجارب الحية والجميلة والمثمرة…. فمهما نسيتُ لن أنْــسَــانِــي طفلا بسوق سبت الحوافات وسوق الخميس ارميلة وسوق اثنين مشرع بلقصيري، فلقد تعلمتُ هناك قواعد التجارة والتسوق والتبضع والتعامل مع الكبير والصغير والفقير والغني …..تعلمتُ هناك أشياء وأشياء لا تزال تطبع شخصيتي طَبْعًا جميلا ونبيلا، وهناك اكتشفتُ أن ما يجعل من الرجل رجلا هو تمتعه بخصال “الكلمة” و”المعقول” والشرف والالتزام، والكد والاجتهاد والطموح، والتركيز على تطوير الذات والنزوع نحو التفوق والتميز، والقدرة على فهم وتفهم الجميع، والاعتناء بالآخرين الذين هم في حاجة إلينا، وخصلة البذل والعطاء دون انتظار الجزاء والشكر…..
وأنا أتأمل، مرت على ذهني، بوضوح تام، تلك السنوات من تعليمي الإعدادي والثانوي بدار الكداري، حيث انفتحت شخصيتي على عوالم جديدة تعلقتُ بها منذ الوهلة الأولى: الرياضة والمسرح وكانت أولى دروس وعِـبَر التنشئة الاجتماعية مع المعلم الكبير العموري عبد القادر وجمعية بهت برجالاتها الكبار الذين تعلمتُ عنهم أن حب الأوطان من الإيمان.. إنها بمثابة مدينتي الفاضلة التي تسكن القلب وتخلب الخاطر بحب أهلها وكرمهم ودماثة أخلاقهم… أعترف أني لم أجد لذلك مثيلا ولا ندا ولا شبيها في أي مدينة أخرى…
جلستُ متأملا أيضا في تلك العشر سنوات من الكد والجد والعمل المتواصل طلباً للعلم بجامعة محمد الخامس في مدينة الرباط … وتذكرتُ حضوري ومشاركاتي في مئات المحاضرات، وآلاف النقاشات، وتذكرتُ ما اطلعتُ عليه من عشرات، بل مئات، الكتب في القانون والأدب والفن والمسرح والثقافة والسياسة … مئات الندوات والمناقشات العلمية ساهمت كلها في إغناء مداركي وفي إثراء رصيدي المفاهيمي والمعرفي…طبعا بحِسٍّ نقدي دائما وأبدا …لأن إيماني راسخ بأن العلم هو نقيض الجمود… وأن العقل سيد العلم… وأن أي إنتاج علمي ينبغي فهمه في سياقاته والبِنَاءُ عليه لاستشراف آفاق علمية أرحب.
بعد فضل الله تعالى، فنتائج اليوم ما هيَ سوى ثمرات كل تلك الأعوام الطويلة من دأبي على طلب العلم واقتفاء أثر العلماء والأساتذة الأجلاء، كالشيخ الإسماعيلي في العقيدة، والشيخ الراجي في القراءات القرآنية، والفقيه المقاصدي أحمد الريسوني، والفقيه الروكي بكلية الآداب، ومؤرخ المملكة عبدالهادي التازي، ومحمد ساعف، والعلوي العبدلاوي، وسي مطيع بالحقوق وآخرون كثر لا يسع المجال لذكرهم الطيب جميعا، فمعذرة منهم وشكرا لهم جميها… أُقَــبِّــلُ أيديهم واحدا واحدا…. وأرجو طول العمر ودوام الصحة لمن لا يزال منهم على قيد الحياة، وأدعو بالرحمة الواسعة لمن انتقل منهم إلى جوار رب العالمين.
تأملتُ في إصداراتي العلمية ومؤلفاتي الأدبية، من كتب ودواوين شعرية: (2008 : سيناريو جاهز)، (2009 : غزة والجار)، (2010 : هو الريح)، (2011 : يوميات صديق)، (2012 : من أجل العقيدة الأشعرية و بها)، ( 2013 : حوارات الإسلاميين والعلمانيين بالمغرب)، ( 2014 : الزعيم)، (2015 : نظرية الحكم عند خلدون)…..
اندهشتُ حين انتبهتُ إلى أنني لم أصدر أي عمل علمي أو أدبي منذ سنة 2015، عاتبتُ نفسي قليلا، وساءلتها كثيرا، حتى وجدتُ أن الجواب على السؤال كامنٌ في السياسة التي أخذتني مع أمواجها المتلاطمة وزحمة أجندتها المتكدسة… لكن عزائي في ذلك هو أنني من خلال الاهتمام بالشأن السياسي وتدبير الشأن المحلي إنما أحاول، قدر المستطاع، أداءَ ولو جزءٍ يسيرٍ من الدَّيْنِ الذي في عنقي إزاء بلدتي الرائعة: الحوافات، عبر السعي نحو إعادة الاعتبار إليها وَرَدِّ قسطٍ من جميلها الذي منحتني إياه أيام الطفولة البدوية الجميلة بها وفيها .. أرجوا من الله أن أكون وَفَّيْتُهَا حقها إبان هذه الولاية الانتدابية 2015/221….
و الأمل يقودني لأداء نفس العمل البناء لمدينتي الغالية دار الكداري الموطن و الأصدقاء و النشئة الخالصة المخلصة لله والوطن و الترعرع في الجغرافية البدوية النقية الطاهرة .
إننا على ذاتِ الدرب لسائرون: في السياسة، وفي العلم، وفي الثقافة، وفي كل مناحي الحياة…. بعزم وثبات وإقدام..والله الموفق والمُعين.
والسلام عليكم و رحمة الله تعالى وبركاته.
التعليقات مغلقة.