زبدة ناس الغيوان

كنت أتفرج على التلفزيون، أبحث عن شيء يستحق المشاهدة، وسط هذا الركام الفائض من القنوات العربية والأجنبية. عندما أوقفت الريموت كنترول على قناة مصرية كانت تبث برنامجا حواريا يناقش التطورات الخطيرة في غزة وفي فلسطين عموما. ثم جاء الفاصل الإعلاني. لم أعمد إلى تغيير القناة، على عادتي ودأب الكثيرين من أمثالي، وقت بث الوصلات الإشهارية، لأتفاجأ بسماع نغمات موسيقى لحن تحفظه الذاكرة، يصاحب أحد الإعلانات التجارية، انتبهت أكثر لأعرف أن الأمر يتعلق بإشهار يخص ماركة من مادة الزبدة، تم فيه استبدال كلمات أغنية مشهورة للفرقة المغربية ناس الغيوان بكلمات باللهجة المصرية لتناسب الدعاية التسويقية للمادة الغذائية.

وليس في الأمر أي غرابة، لقد اعتاد حرفيو صناعة الإشهار التلفزيوني تحوير كلمات أغنية ما، لا سيما إذا كانت من الأغاني المنتشرة، مع الحفاظ على موسيقاها، ثم توظيفها في ترويج سلعة من السلع. من الأمثلة الحاضرة نذكر تحويل الأغنية الغيوانية الشهيرة “الصينية” إلى إشهار لأحد أنواع الشاي. أو توظيف الأغنية الأخيرة للمطربة أسماء المنور: “عندو الزين”، للدعاية لإحدى شركات العقار المغربية.

 سأعرف أن صاحب هذه “السرقة الفنية الموصوفة”، التي نحن بصددها، هو فنان مصري من أصل ليبي، لا يتورع عن “العود” واقتراف “ممارساته الفنية”، إذ أدانته المحكمة قبل أعوام خلت في قضية سرقة أغنية، حيث سبق لحميد الشاعري، وهذا هو اسمه، أن تم ضبطه متلبسا بسرقة ألحان أخرى ليست من إبداعه، ومن بينها سرقته لأغنية مغربية قديمة، أقدم على “خطفها” بأكملها، أقصد لحنا وكلمات، وبكل جرأة نسبها لنفسه، مما اضطر صاحب الأغنية إلى رفع دعوى ضده لدى المحاكم المختصة، والأغنية هي “بنت بلادي زينة” للفنان الشعبي محمد الإدريسي الذي رحل عن دنيانا سنة 2016.

لكني سأعرف أيضا، أن هذا الإعلان المسروق من لحن غيواني، سبق أن وظفه حميد الشاعري في أغنية بعنوان “جنة.. جنة” عرفت نجاحا في مصر سنة 1989، خصوصا وقد عمد هذا “الملحن الظريف” إلى مزج هذه الأغنية بلحن غيواني آخر من أغنية “الله يا مولانا” بنفس كلمات الغيوان. ولأنه صادف أن اسم الزبدة موضوع الإشهار هو “زبدة جنة”، كان اللحن جاهزا، واستبدلت كلمة “دنة.. دنة” ب”جنة.. جنة”.

وبالمناسبة، لو كان لدينا في المغرب واحد بشطارة هذا الملحن “الحاذق”، لتقدم باقتراح إشهار يقنع به إحدى الشركات التي تعاني اليوم من حملة غير مسبوقة لمقاطعة منتوجاتها، ولن يبتعد عن الريبتوار الغيواني  ذاته، ليلجأ إلى تحريف أغنية “غير خذوني” أو “نرجاك أنا”، ليخاطب بها جمهور المقاطعين، ربما يكون لمفعول الموسيقى الغيوانية الغناوية ولتأثيرها الروحي النوستالجي، بعض الأثر على شريحة واسعة من المستهلكين، لإحداث شرخ كبير في جدار المقاطعة العنيد الذي استكمل شهرا من الأيام.

وبما أن موضوع الأغنية الغيوانية الأصل يتحدث عن المجزرة الرهيبة التي تعرض لها الآلاف من الفلسطينيين اللاجئين في مخيمي صبرا وشاتيلا، قبل أزيد من ثلاث عقود ونصف في لبنان، يبقى أمر سرقة لحن يتغنى بجراح فلسطين وآلام شعبها، أهون بكثير أمام المؤامرة الأكبر التي تتعرض لها فلسطين اليوم، بشكل متعاظم، ينفي أي حق للشعب الفلسطيني على هذه الأرض أو جزء منها، لتصبح أرض فلسطين هي “الأرض التاريخية للشعب اليهودي” كما يزعم الصهيوني نتنياهو ويباركه اليوم مدعما الحاخام الأكبر دونالد ترامب.

لا أعتقد أن الأجيال التي سبقتنا، من الشعوب العربية والإسلامية، قد خطر ببالها، أن القضية الفلسطينية سيأتي عليها زمن يماثل هذه الأيام من الظلم والتنكيل، وسط صمت دولي وخذلان عربي تام.

لقد ظلت فلسطين تترنح الى أن وصل بها الحال أن تدخل طي النسيان، على الرغم من حجم ما تتعرض له من مجازر على يد الاحتلال الصهيوني، ومن تآم ر دولي، لتكون الطعنة القاتلة من طعنة “خناجر شقيقة وصديقة”، على وزن التعبير العسكري الأمريكي “نيران صديقة”، أي طعنة الدول العربية والإسلامية.

انتهى الفاصل الإعلاني وعاد المذيع الوسيم لاستكمال برنامجه “الشهي” مع ضيفه المتكرش، حول تطورات الوضع الفلسطيني، بعدها سيعود الفاصل الإشهاري من جديد، ليظل الزبد المتطاير من بين شدقي المتحدث التلفزيوني، يذكرني ب”جنة” حميد الشاعري، أعني “زبدته”.

وقلت في نفسي: لا بأس إذا أفطر الصائم على إعلان تلفزيوني لزبدة رائقة من مائدة الامبريالية المارقة، بنكهة الجراح الصاعقة، من “ماركة صبرا وشاتيلا 1982″، فرغم التاريخ القديم ما تزال استمرارية “صلاحية الهلاك” لم تنقض بعد.. ولن ينقضي أو ينضب صمود ومقاومة “هلكاها” أبدا، رغم كل هذا الصمت المهين.

“الدنيا سكْتاتْ لَعْدَا دَارْت مَابْغـَاتْ/ الدنيا سكْتاتْ..الصهيون دارت مابغاتْ…”..

هكذا تخبرنا الإيقاعات الدامية لناس الغيوان.

التعليقات مغلقة.